الحكمة من البلاء تظهر في قوله تعالى: {
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ
لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت 1 – 3).
قال أحد السلف:
الناس ماداموا في عافية فهم مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه.
وجاء في كتاب جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطى (2/139):
قال بعضهم:" لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام ولا جزع اللئام ".
الـبـلاء أمـر حـتـمي لابـد:
فالبلاء سنة كونية من سنن الله U قال تعالى:
{ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (الإنسان: 2)
فالواضح وضوح الشمس أن الإنسان في هذه الدار غرض للنوائب ورمية للحوادث، فإن سلم في نفسه (أي: من الموت) أصيب في أعضائه، وإن عوفي في أعضائه امتُحن بفقد أحبائه، وإن قدرت له السلامة من ذلك، فالهرم من ورائه . (جنة الرضا:3 / 5).
وقد دلت الأدلة على أن المصائب والآلام والأمراض ملازمة للبشر، وأنه لابد لهم منها لتحقيق العبودية لله، قال تعالى:{
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الأموال وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة 155 /157). والمصيبة تشمل كل ما يسوء المرء.
وأخرج ابن أبى شيبة في مصنفه عن عمر t:
أنه انقطع شِسْع نعله فاسترجع – أي أنه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون
وقال كل ما ساءك فهو مصيبة.
جاء في النهاية (2 / 472):
ـ والشِسع هو أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين .
وقال ابن كثير رحمه الله – في تفسيره (2/155)في قوله تعالى:
{لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كثيراً
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور }(آل عمران: 186 )
أي:
لابد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه، أو ولده أو أهله،ويبتلى
المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء . أ هـ
قال تعالى:{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ}(سورة البلد:4)
قال سعيد ابن أبى الحسن – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:
يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة(تفسير ابن جرير:30 /197)
وقال سبحانه وتعالى:{
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ
غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً
ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ}(سورة الحديد:20).
فإذا
تيقنت أن الدنيا حقيرة عند خالقها، وأنه لابد فيها من الأكدار والمنغصات ،
حملك هذا الصبر على ما تلقاه فيها وتوطين النفس على ذلك.
ومن أمثال العرب:من حدث نفسه بطول البقاء فليوطن نفسه على المصائب.(جنة الرضا:3/ 29).
وقال أبو جعفر بن خاتمة – رحمه الله -:
هو الدهر لا يبقى على عائذ به.... فمن شاء عيشاً يصطبر لنوائبه
(جنّة الرضا:3/6)
وقال على بن محمد الدباغ – رحمه الله -:
إن طال عمرك فجعت بأحبابك،وإن قصر فجعت بنفسك(جنة الرضا:3/6).
وقال أبو فراس:
المرء بين مصائب لا تنقضي.... حتى يوارى جسمه في رمْسه
فمؤجَّل يلقى الردى في أهله.... ومعجل يلقى الردى في نفسه
(أدب الدنيا والدين صـ463)
وقال أبو الحسن التهامي – رحمه الله – في ذم الدنيا:
طبعت على كدر وأنت تريدها.... صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طبـاعها.... متطلّب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما.... تبنى الرجاء على شفيرٍ هار
(وفيات الأعيان (3/83)
ـ القذى: ما يقع في العين وما ترمي به، والجمع أقذاء وقُذِىّ .(لسان العرب ص 3562).