نبذة:
أرسله الله تعالى إلى فرعون وقومه، وأيده بمعجزتين، إحداهما هي
العصا التي تلقف الثعابين، أما الأخرى فكانت يده التي يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء
من غير سوء، دعاموسى إلى وحدانية الله فحاربه
فرعون وجمع له السحرة ليكيدوا له ولكنه هزمهم بإذن الله تعالى، ثم أمره الله أن
يخرج من مصر مع من اتبعه، فطارده فرعون بجيش عظيم، ووقت أن ظن أتباعه أنهم مدركون
أمره الله أن يضرب البحر بعصاه لتكون نجاته وليكون هلاك فرعون الذي جعله الله عبرة
للآخرين.
سيرته:
أثناء حياة يوسف عليالسلام
بمصر، تحولت مصر إلى التوحيد. توحيد الله سبحانه، وهي الرسالة التي
كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم. لكن بعد وفاته، عاد أهل مصر إلى ضلالهم وشركهم.
أما أبناء يعقوب، أو أبناء إسرائيل، فقد اختلطوا بالمجتمع المصري، فضلّ منهم من ضل،
وبقي على التوحيد من بقي. وتكاثر أبناء إسرائيل وتزايد عددهم، واشتغلوا في العديد
من الحرف.
ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه. ورأى هذا
الملك بني إسرائيل يتكاثرون ويزيدون ويملكون. وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إن
واحدا من أبناء إسرائيل سيسقط فرعون مصر عن عرشه. فأصدر الفرعون أمره ألا يلد أحد
من بني إسرائيل، أي أن يقتل أي وليد ذكر. وبدأ تطبيق النظام، ثم قال مستشارون فرعون
له، إن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، وهذا سينتهي إلى
إفناء بني إسرائيل، فستضعف مصر لقلة الأيدي العاملة بها. والأفضل أن تنظم العملية
بأن يذبحون الذكور في عام ويتركونهم في العام الذي يليه.
ووجد
الفرعون أن هذا الحل أسلم. وحملت أمموسى بهارون في العام الذي لا
يقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة. فلما جاء العام الذي يقتل فيه الغلمان
ولدموسى. حمل ميلاده خوفا
عظيما لأمه. خافتعليه من القتل. راحت ترضعه
في السر. ثم جاءتعليها ليلة مباركة أوحى الله
إليها فيها للأم بصنع صندوق صغير لموسى. ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق.
وإلقاءه في النهر.
كان قلب الأم، وهو أرحم القلوب في الدنيا،
يمتلئ بالألم وهي ترمي ابنها في النيل، لكنها كانت تعلم أن الله أرحم بموسى
منها، والله هو ربه ورب النيل. لم يكد الصندوق يلمس مياه النيل حتى
أصدر الخالق أمره إلى الأمواج أن تكون هادئة حانية وهي تحمل هذا الرضيع الذي سيكون
نبيا فيما بعد، ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بردا وسلاما على
إبراهيم، كذلك أصدر أمره للنيل أن يحملموسى بهدوء ورفق حتى يسلمه إلى
قصر فرعون. وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون. وهناك أسلمه الموج
للشاطئ.
رفضموسى
للمراضع:
وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتمشى في
حديقة القصر. وكانت زوجة فرعون تختلف كثيرا عنه. فقد كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة.
كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة. كان جبارا وكانت رقيقة وطيبة. وأيضا كانت حزينة، فلم
تكن تلد. وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد.
وعندما ذهبت الجواري
ليملأن الانا قليل حياماتربيت من النهر، وجدن الصندوق، فحملنه كما هو إلى زوجة فرعون. فأمرتهن أن
يفتحنه ففتحنه. فرأتموسى بداخله فأحست بحبه في
قلبها. فلقد ألقى الله في قلبها محبته فحملته من الصندوق. فاستيقظموسى
وبدأ يبكي. كان جائعا يحتاج إلى رضعة الصباح
فبكى.
فجاءت زوجة فرعون إليه، وهي تحمل بين بيدها طفلا رضيعا. فسأل
من أين جاء هذا الرضيع؟ فحدثوه بأمر الصندوق. فقال بقلب لا يعرف الرحمة: لابد أنه
أحد أطفال بني إسرائيل. أليس المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟
فذكّرت
آسيا -امرأة فرعون- زوجها بعدم قدرتهم على وطلبت منه أن يسمح لها بتربيته. سمح لها
بذلك.
عادموسى للبكاء من الجوع. فأمرت
بإحضار المراضع. فحضرت مرضعة من القصر وأخذتموسى لترضعه فرفض أن يرضع
منها. فحضرت مرضعة ثانية وثالثة وعاشرة وموسى يبكي ولا يريد أن يرضع.
فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل.
لم تكن زوجة
فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفعموسى لجميع المراضع. فلقد كانت
أمموسى
هي الأخرى حزينة باكية. لم تكد ترميموسى
في النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها في النيل. غاب الصندوق في مياه
النيل واختفت
[b][b][b]أخبار[/b][/b][/b]ه.
وجاء الصباح على أمموسى فإذا قلبها فارغ
يذوب حزنا على ابنها، وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون.
لولا أن الله تعالى ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها فهدأت
واستكانت وتركت أمر ابنها لله. كل ما في الأمر أنها قالت لأخته: اذهبي بهدوء إلى
المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.
وذهبت
أختموسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر
فرعون، فإذا بها تسمع القصة الكاملة. رأتموسى من بعيد وسمعت بكاءه،
ورأتهم حائرين لا يعرفون كيف يرضعونه، سمعت أنه يرفض كل المراضع. وقالت
أختموسى لحرس فرعون: هل أدلكم على
أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟
ففرحت
زوجة فرعون كثيرا لهذا الأمر، وطلبت منها أن تحضر المرضعة. وعادت أختموسى
وأحضرت أمه. وأرضعته أمه فرضع. وتهللت زوجة فرعون وقالت: "خذيه حتى
تنتهي فترة رضاعته وأعيديه إلينا بعدها، وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له". وهكذا
رد الله تعالىموسى لأمه كي تقر عينها ويهدأ
قلبها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه تنفذ رغم أي شيء. ورغم كل
شيء.
نشأةموسى في بيت
فرعون:
أتمت أمموسى رضاعته وأسلمته لبيت
فرعون. كان موضع حب الجميع. كان لا يراه أحد إلا أحبه. وها هو ذا في أعظم قصور
الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته. بدأت تربيةموسى في بيت فرعون. وكان هذا
البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت. كانت مصر أيامها أعظم دولة في
الأرض. وكان فرعون أقوى ملك في الأرض، ومن
[b][b][b]الطب[/b][/b][/b]يعي
أن يضم قصره أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الأرض. وهكذا شاءت حكمة الله
تعالى أن يتربىموسى أعظم تربية وأن يتعهده
أعظم المدرسين، وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة
الخالق.
وكبرموسى في بيت فرعون.
كانموسى يعلم أنه ليس ابنا
لفرعون، إنما هو واحد من بني إسرائيل. وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني
إسرائيل.. وكبرموسى وبلغ أشده.. (وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) وراح يتمشى فيها. فوجد رجلا من
اتباع فرعون وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل، واستغاث به الرجل الضعيف
فتدخلموسى وأزاح بيده الرجل الظالم
فقتله. كانموسى قويا جدا، ولم يكن يقصد
قتل الظالم، إنما أراد إزاحته فقط، لكن ضربته هذه قتلته. ففوجئموسى
به وقد مات وقال لنفسه: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ). ودعاموسى ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي). وغفر الله تعالى له، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ).
أصبحموسى (فِي الْمَدِينَةِ
خَائِفًا يَتَرَقَّبُ). كان هذا حالموسى، حال إنسان مطارد، فهو
خائف، يتوقع الشر في كل خطوة، وهو مترقب، يلتفت لأوهى الحركات
وأخفاها.
ووعدموسى بأن لا يكون ظهيرا
للمجرمين. لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه.
وفوجئموسى أثناء سيره بنفس الرجل
الذي أنقذه بالأمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم. كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد
المصريين. وأدركموسى بأن هذا الإسرائيلي
مشاغب. أدرك أنه من هواة المشاجرات. وصرخموسى في الإسرائيلي يعنفه
قائلا: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ). قالموسى كلمته واندفع نحوهما يريد
البطش بالمصري. واعتقد الإسرائيلي أنموسى سيبطش به هو. دفعه الخوف
منموسى
إلى استرحامه صارخا، وذكّره بالمصري الذي قتله بالأمس.
فتوقفموسى، سكت عنه الغضب وتذكر ما
فعله بالأمس، وكيف استغفر وتاب ووعد ألا يكون نصيرا للمجرمين. استدارموسى
عائدا ومضى وهو يستغفر ربه.
وأدرك المصري الذي
كان يتشاجر مع الإسرائيلي أنموسى هو قاتل المصري الذي
عثروا على جثته أمس. ولم يكن أحد من المصررين يعلم من القاتل. فنشر هذا المصري
الخبر في أرجاء المدينة. وانكشف سرموسى وظهر أمره. وجاء رجل مصري
مؤمن من أقصى المدينة مسرعا. ونصحموسى بالخروج من مصر، لأن
المصريين ينوون قلته.
لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي
جاء يحذرموسى. ونرجح أنه كان رجلا
مصريا من ذوي الأهمية، فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى
من مستويات عليا، ولو كان شخصية عادية لما عرف. يعرف الرجل
أنموسى
لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالأمس.. لقد قتل الرجل خطأ. فيجب أن
تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.
لكن رؤساء القوم وعليتهم،
الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهونموسى لأنه من بني إسرائيل،
ولأنه نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر، وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص
منموسى، فهو قاتل المصري، لذا
فهو يستحق القتل.
خرجموسى من مصر على الفور.
خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب. في قلبه دعاء لله (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ). وكان القوم ظالمين حقا. ألا يريدون تطبيق عقوبة القتل
العمدعليه، وهو لم يفعل شيئا أكثر
من أنه مد يده وأزاح رجلا فقتله خطأ؟
خرجموسى
من مصر على عجل. لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير ملابسه ولم يأخذ
طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته. لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله. ولم يكن
في قافلة. إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج.
اختار طريقا غير مطروق وسلكه. دخل في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية
الإلهية أن يتجه. لم يكنموسى يسير قاصدا مكانا معينا.
هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر الصحراء وحده.
موسى
في مدين:
ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى
مكان. كان هذا المكان هو مدين. جلس يرتاح عند بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم.
وكان خائفا طوال الوقت أن يرسل فرعون من وراءه من يقبضعليه.
لم
يكدموسى يصل إلى مدين حتى ألقى
بنفسه تحت شجرة واستراح. نال منه الجوع والتعب، وسقطت نعله بعد أن ذابت من مشقة
السير على الرمال والصخور والتراب. لم تكن معه نقود لشراء نعل جديدة. ولم تكن معه
نقود لشراء طعام أو شراب. لاحظموسى جماعة من الرعاة يسقون
غنمهم، ووجد امرأتين تكفان غنمهما أن يختلطا بغنم القوم، أحسموسى
بما يشبه الإلهام أن الفتاتين في حاجة إلى المساعدة. تقدم منهما وسأل
هل يستطيع أن يساعدهما في شيء.
قالت إحداهما: نحن ننتظر أن ينتهي
الرعاة من سقي غنمهم لنسقي.
سألموسى: ولماذا لا
تسقيان؟
قالت الأخرى: لا نستطيع أن نزاحم
الرجال.
اندهشموسى لأنهما ترعيان الغنم.
المفروض أن يرعى الرجال الأغنام. هذه مهمة شاقة ومتعبة وتحتاج إلى
اليقظة.
سألموسى: لماذا ترعيان
الغنم؟
فقالت واحدة منهما: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج كل
يوم للرعي.
فقالموسى: سأسقي
لكما.
سارموسى نحو الماء. وسقى لهم
الغنم مع بقية الرعاة. وفي رواية أن أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر بعد أن انتهوا
منها صخرة ضخمة لا يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال. فرفعموسى
الصخرة وحده. وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها، وتركهما وعاد
يجلس تحت ظل الشجرة. وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبه: (رَبِّ إِنِّي لِمَا
أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).
عادت الفتاتان إلى أبيهما
الشيخ.
سأل الأب: عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟!
قالت إحداهما:
تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم.
فقال الأب لابنته: اذهبي إليه وقولي له:
(إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ليعطيك (أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
ذهبت
واحدة من الفتاتين إلىموسى، ووقفت أمامه وأبلغته
رسالة أبيها. فنهضموسى وبصره في الأرض. إنه لم
يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا، وإنما ساعدهما لوجه الله، غير أنه أحس في داخله أن
الله هو الذي يوجه قدميه فنهض. سارت البنت أمامه. هبت الرياح فضربت ثوبها
فخفضموسى بصره حياء وقال لها:
سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.
وصلا إلى الشيخ. قال بعض
المفسرين إن هذا الشيخ هو النبي شعيب. عمر طويلا بعد موت قومه. وقيل إنه ابن أخي
شعيب. وقيل ابن عمه، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا به. لا نعرف أكثر من
كونه شيخا صالحا.
قدم له الشيخ الطعام وسأله: من أين قدم وإلى أين
سيذهب؟ حدثهموسى عن قصته. قال الشيخ: (لَا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). هذه البلاد لا تتبع مصر، ولن يصلوا
إليك هنا. اطمأنموسى ونهض
لينصرف.
قالت ابنة الشيخ لأبيها همسا: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
سألها الأب: كيف عرفت
أنه قوي؟
قالت: رفع وحده صخرة لا يرفعها غير عدد رجال.
سألها: وكيف عرفت
أنه أمين؟
قالت: رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى لا ينظر إلي وأنا أمشي. وطوال
الوقت الذي كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في الأرض حياء و
[b][b][b]أدب[/b][/b][/b]ا.
وعاد
الشيخ لموسى وقال له: أريد
ياموسى
أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي الغنم عندي ثماني سنوات، فإن
أتممت عشر سنوات، فمن كرمك، لا أريد أن أتعبك، (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ). قالموسى: هذا اتفاق بيني وبينك.
والله شاهد على اتفاقنا. سواء قضيت السنوات الثمانية، أو العشر سنوات فأنا حر بعدها
في الذهاب.
يخوض الكثيرون في تيه من الأقاصيص
والروايات، حول أي ابنتي الشيخ تزوج، وأي المدتين قضى. والثابت أنموسى
تزوج إحدى ابنتي الشيخ. لا نعرف من كانت، ولا ماذا كان اسمها. وهذه
الأمور سكت عنها السياق القرآني. إلا أنه استنادا إلى طبيعةموسى
وكرمه ونبوته وكونه من أولي العزم. نرى أنه قضى الأجل الأكبر. وهذا
ما يؤكدهحديث
ابن عباس رضي الله عنهما. وهكذا عاشموسى
يخدم الشيخ عشر سنوات
كاملة.
موسى ورعي
الغنم:
وكان عملموسى ينحصر في الخروج مع الفجر
كل يوم لرعي الأغنام والسقاية لها.
ولنقف هنا وقفة تدبر. إن
قدرة الإلهية نقلت خطىموسى -عليه
السلام- خطوة بخطوة. منذ أن كان
رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون.
وألقتعليه محبة زوجة فرعون لينشأ
في كنف عدوّه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل نفسا. وأرسلت إليه
بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج من مصر. وصاحبته في الطريق
الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد من غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ
الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى
التكليف.
هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، قبل النداء
والتكليف. تجربة الرعاية والحب والتدليل. تجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس،
وتجربة الندم والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة. وتجربة الغربة والوحدة والجوع.
وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب
صغيرة، ومشاعر و
[b][b][b]خواطر[/b][/b][/b]،
وإدراك ومعرفة. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم
والحكمة.
إن الرسالة تكليف ضخم شاق، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من
التجارب والإدراك والمعرفة، إلى جانب وحي الله وتوجيهه. ورسالةموسى
تكليف عظيم، فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في
زمانه، وأشدهم استعلاء في الأرض. وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى
استمرأوا مذاقه. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.
فتجربة
السنوات العشر جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيهاموسى
-عليه السلام-
وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة. فلحياة القصور جوا وتقاليد خاصة.
أما الرسالة فهي معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، المهذب والخشن، القوي
والضعيف، وفيهم وفيهم. وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا، وقلوب أهل
القصور في الغالب لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان
والمشقة.
فلما استكملت نفسموسى
-عليه السلام-
تجاربها، وأكملت مرانها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغرة. قادت القدرة الإلهية
خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال عمله. وهكذا نرى كيف
صُنِعَموسى على عين الله، وكيف تم
إعداده لتلقي التكليف.
عودةموسى
لمصر:
ترى أي خاطر راودموسى، فعاد به إلى مصر، بعد
انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد قتل
فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه
ليقتلوه؟
إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها. لعلها قادته هذه
المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة والوطن. وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه
وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها.
خرجموسى
مع أهله وسار. اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظلام.
اشتد البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظلام. وتاهموسى
أثناء سيره. ووقفموسى حائرا يرتعش من البرد وسط
أهله.. ثم رفع رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل عن بعد. امتلأ قلبه بالفرح فجأة. قال
لأهله: أني رأيت نارا هناك.
أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى
النار لعله يأتيهم منها بخبر، أو يجد أحدا يسأله عن الطريق فيهتدي إليه، أو يحضر
إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم.
وتحركموسى
نحو النار. سارموسى مسرعا ليدفئ نفسه. يده
اليمنى تمسك عصاه. جسده مبلل من المطر. ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه طوى. لاحظ
شيئا غريبا في هذا الوادي. لم يكن هناك برد ولا رياح. ثمة صمت عظيم ساكن.
واقتربموسى من النار. لم يكد يقترب
منها حتى نودي: (أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ
اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
نظرموسى
في النار فوجد شجرة خضراء. كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة.
والمفروض أن تتحول الشجرة إلى اللون الأسود وهي تحترق. لكن النار تزيد واللون
الأخضر يزيد. كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه، وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي
طوى.
ثم ارتجت الأرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي: يَا
مُوسَى
فأجابموسى:
نعم.
قال الله عز وجل: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ
ازداد
ارتعاشموسى وقال: نعم يا
رب.
قال الله عز وجل: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ
الْمُقَدَّسِ طُوًى
انحنىموسى راكعا وجسده كله
ينتفض وخلع نعليه.
عاد
الحق سبحانه وتعالى يقول: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) (طه)
زاد انتفاض جسدموسى
وهو يتلقى الوحي الإلهي ويستمع إلى ربه وهو
يخاطبه.
قال الرحمن الرحيم: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا
مُوسَى
ازدادت دهشةموسى. إن الله سبحانه وتعالى
هو الذي يخاطبه، والله يعرف أكثر منه أنه يمسك عصاه. لماذا يسأله الله إذن إذا كان
يعرف أكثر منه؟! لا شك أن هناك حكمة عليا
لذلك.
أجابموسى: قَالَ هِيَ عَصَايَ
أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ
أُخْرَى
قال الله عز وجل: أَلْقِهَا يَا
مُوسَى
رمىموسى العصا من يده وقد زادت
دهشته. وفوجئ بأن العصا تتحول فجأة إلى ثعبان عظيم الحجم هائل الجسم. وراح الثعبان
يتحرك بسرعة. ولم يستطعموسى أن يقاوم خوفه. أحس أن
بدنه يتزلزل من الخوف. فاستدارموسى فزعا وبدأ يجري. لم يكد
يجري خطوتين حتى ناداه الله: يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ
الْمُرْسَلُونَ.
عادموسى يستدير ويقف. لم تزل
العصا تتحرك. لم تزل الحية تتحرك.
قال الله سبحانه وتعالى
لموسى: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ
سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى
مدموسى
يده للحية وهو يرتعش. لم يكد يلمسها حتى تحولت في يده إلى عصا. عاد
الأمر الإلهي يصدر له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ
الرَّهْبِ
وضعموسى يده في جيبه وأخرجها فإذا
هي تتلألأ كالقمر. زاد انفعالموسى بما يحدث، وضع يده على
قلبه كما أمره الله فذهب خوفه تماما..
اطمأنموسى
وسكت. وأصدر الله إليه أمرا بعد هاتين المعجزتين -معجزة العصا ومعجزة
اليد- أن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى الله برفق ولين، ويأمره أن يخرج بني إسرائيل من
مصر. وأبدىموسى خوفه من فرعون. قال إنه
قتل منهم نفسا ويخاف أن يقتلوه. توسل إلى الله أن يرسل معه أخاه هارون. طمأن
اللهموسى أنه سيكون معهما يسمع
ويرى، وأن فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما بسوء. أفهم اللهموسى
أنه هو الغالب. ودعاموسى وابتهل إلى الله أن يشرح
له صدره وييسر أمره ويمنحه القدرة على الدعوة إليه. ثم قفلموسى
راجعا لأهله بعد اصطفاء الله واختياره رسولا إلى فرعون.
انحدرموسى بأهله قاصدا
مصر.
يعلم الله وحده أي أفكار عبرت ذهنموسى
وهو يحث خطاه قاصدا مصر. انتهى زمان التأمل، وانطوت أيام الراحة،
وجاءت الأوقات الصعبة أخيرا، وها هو ذاموسى يحمل أمانة الحق ويمضي
ليواجه بها بطش أعظم جبابرة عصره وأعتاهم. يعلمموسى
أن فرعون مصر طاغية. يعلم أنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع. يعلم
أنه سيقف من دعوته موقف الإنكار والكبرياء والتجاهل. لقد أمره الله تعالى أن يذهب
إلى فرعون. أن يدعوه بلين ورفق إلى الله. أوحى الله لموسى
أن فرعون لن يؤمن. ليدعهموسى وشأنه. وليركز على إطلاق
سراح بني إسرائيل والكف عن تعذيبهم.
بقية قصةموسى عليه
السلام